Image

استحالة الأعيان وانقلابها





ما هي الاستحالة؟ وهل تؤثر في الأعيان فينقلب حكمها تبعا لاستحالتها عن أصلها إلى صلاح أو فساد؟ / أم أن  العبرة بحكم الأصل.

الجواب

معنى استحالة العين : انقلابها من حالة إلى حالة، وهذا يسمى بانقلاب العين. والعلماء متفقون على هذا المضمون للاستحالة، وإن اختلفت عباراتهم. فالحنفية يعرفون الاستحالة بأنها: تغير العين وانقلاب حقيقتها إلى حقيقة أخرى. انتهى من الدر المختار 1/210 .
والشافعية يقولون: انقلاب الشيء من صفة إلى صفة أخرى. انتهى من المجموع 1/55 .
وعند المالكية الاستحالة: تحول المادة عن صفاتها وخروجها عن اسمها الذي كانت به إلى صفات واسم يختص بها. انتهى من مواهب الجليل 1/97 .

أما الحكم فمن الفقهاء من يقول بأن انقلاب العين النجسة عن أصلها يجعلها طاهرة؛ كانقلاب الخمر لدى من يرى نجساته إلى خلّ، فهذا التغير يجعل الأشياء طاهرة .كما قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله

ويدخل في ذلك كل ما كان فيه تغير وانقلاب حقيقي، ولا سيما إذا كان فيه بلوى عامة،.كالكحول اليوم والأنفحة المستخلصة من ميتة او خنزير ونحوه  فقلما يسلم دواء أو عطر او طعام معلب من شيء من ذلك.

ومن تطبيق قاعدة الانقلاب هذه  أنه إذا حرق إنسان نجاسة حتى صارت رمادًا؛ فإن هذا الرماد يصبح طاهرًا على المعتمد عند العلماء، في المذهب المالكي.

وقال البناني في الخمر: "فإذا انقلبت خلًّا، انقلبت سائر الأجزاء التي دخلته؛ فزال حكم النجاسة".

وقال الزرقاني أيضًا: "إذا كانت النجاسة ذاتية، وتغيرت أعراضها جرى فيها قولان، والمشهور الفرق بين ما استحال إلى صلاح كالبيض واللبن، وما استحال إلى فساد فلا يطهر".

قال في المنهج : وهل يؤثر انقلاب كعرق ... ولبن بول وتفصيل أحق
 جاء في شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب : 119ج1 (
أي انقلاب أعراض النجاسة هل له تأثير في الأحكام أم لا؟ وعليه لبن الجلالة

وعرقها، وبولها ولحمها وبيضها، وعرق السكران، ولبن المرأة الشاربة. والزرع والبقول يسقي بماء نجس وعسل النحلة الآكلة للعسل المتنجس وقطرة الحمام والخمر إذا تخلل أو تحجر ورماد الميتة والمزيلة وهي كثيرة جدا.
قوله: (وتفصيل أحق) أي التفصيل بين ما استحال إلي صلاح فهو طاهر كاللبن والبيض والعسل، وما استحال إلي فساد نجس، كالروث والبول وهو أحق أي أولي. وهو قول يحيي بن عمر...
يستثني من هذه القاعدة المسك، فقد أجمعوا علي طهارته حكاه الباجي.).

وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: (1/231): وأما دخان النجاسة: فهذا مبني على أصل، وهو: أن العين النجسة الخبيثة إذا استحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة، مثل أن يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير، ملحا طيبا كغيرها من الملح، أو يصير الوقود رمادا، وخرسفا، وقصرملا، ونحو ذلك، ففيه للعلماء قولان:

أحدهما: لا يطهر كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وهو المشهور عن أصحاب أحمد، وإحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى: أنه طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك في أحد القولين، وإحدى الروايتين عن أحمد.

ومذهب أهل الظاهر وغيرهم: أنها تطهر، وهذا هو الصواب المقطوع به، فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم، لا لفظا ولا معنى، فليست محرمة ولا في معنى المحرم، فلا وجه لتحريمها، بل تتناولها نصوص الحل، فإنها من الطيبات، وهي أيضا في معنى ما اتفق على حله، فالنص والقياس يقتضي تحليلها.)

وقال أيضا في مجموع الفتاوى (لو وقع خمر في ماء، واستحالت، ثم شربها شارب، لم يكن شاربا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر، إذا لم يبق شيء من طعمها، ولونها، وريحها.

ولو صب لبن امرأة في ماء، واستحال حتى لم يبق له أثر، وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها من الرضاعة).

وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: (ومن الممتنع بقاء حكم الخبيث وقد زال اسمه ووصفه والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجوداً أو عدما، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا يتناول الزروع والثمار والرماد والملح والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصا ولا قياساً).

لذا فإنا نقول: إن كل ما استحال من أعيان النجاسات وانتقل إلى حقيقة مغايرة للأصل النجس انتقالا تاماً، فإنه يصبح حلالا جائز الاستعمال على ما ذهب إليه الأكثر، لأن الشرع رتب وصف النجاسة على حقيقة كائنة بها ، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها؛ فقد رتب الشارع وصف النجاسة على مسمى الخمر لدى من يقول بنجاسته، فإذا كان الاسم قد تغير وأصبح يسمى خلًّا تكون الحقيقة قد تغيرت؛ فيتغير معها ما رتب الشارع الأثر عليه.

إذًا: الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف لو ذهب الكل؟

وبناء على هذا لقول  فالمياه النجسة كمياه المجاري إذا عُولجت حتى أصبحت مياهًا طبيعية، لا أثر للنجاسة في لونها ولا طعمها ولا رائحتها -كانت ماء طهورًا يصح التطهر به لرفع حدث أو إزالة نجس، وبهذا أصدر مجمع الفقه الإسلامي القرار التالي:

"إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م، إلى يوم الأحد عشرين من رجب 1409هـ الموافق 26 فبراير 1989م -قد نظر في السؤال عن حكم ماء المجاري بعد تنقيته؛ هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغسل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟

أولًا: وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيميائية، وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربع؛ وهي: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور؛ بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول، موثوق بصدقهم وأمانتهم.

ثانيًا: الحكم:

قرر المجمع ما يأتي: أن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه، ولا في لونه، ولا في ريحه -صار طهورًا، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به؛ بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر "أن الماء الكثير الذي وقعت فيه النجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه، إذا لم يبق لها أثر فيه"".

ومن المعلوم أن الخمر لو تخللت من نفسها فإنها تكون طاهرة بلا خلاف لكن هل يجوز تخليلها ولو فعل فهل تطهر أولا فقال الشافعية والحنابلة وهو رواية عند المالكية إنه لا يحل ولا يطهر، لحديث أنس في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلا؟ فقال: لا.

ولأن الخمر مأمور بإراقتها. وذهب الحنفية وهو الراجح عند المالكية إلى أنه يحل ويطهر بذلك قال في الاختيار لتعليل المختار من كتب الحنفية  ( وخل الخمر حلال سواء تخللت أو خللت ) وذكره ابن نجيم أيضا في البحر الرائق.

وقال العلامة خليل في المختصر -وهو مالكي المذهب- عاطفاً على الأشياء الطاهرة: (وخمر تحجر أو خلل). قال شراحه: ولو بإلقاء شيء فيه كالملح والخل والماء، فيطهر ويطهر ما ألقي فيه. قال الخرشي في شرحه للمختصر 1/88(يعني أن الخمر إذا انتقلت من المائعية إلى أن تحجرت أو انتقلت من التخمير إلى التخليل فإنها تطهر؛ لأن النجاسة فيه متعلقة بالشدة المطربة فإذا ذهبت ذهب التنجيس، والتحريم والنجاسة يدوران مع العلة وجودا وعدما أما لو كان الإسكار باقيا فيه بحيث لو بل وشرب أسكر فليس بطاهر وظاهره تحجر في أوانيه أولا، وهو كذلك ولا فرق بين ما تخلل بنفسه أو بفعل فاعل).

والله تعالى أعلم