Image

هل من قلد عالما لقي الله سالما

 

عبارة شائعة ذائعة، وإن لم يكن بهذا اللفظ فبمعناه حسب اختلاف اللهجات وتنوع العبارات.

فما مدى صحتها، وهل لها أصل يعتمد عليه؟
أما عن صحة العبارة فهي صحيحة،  لكنها ليست على إطلاقها، ولها أصل من الكتاب، وأصل من السنة لا يقل عن درجة الحسن، وقد ذكرها بعض أهل العلم تقعيدا وتقريرا، لكن الناس أسرفوا في استخدامها والاستدلال بها في غير محلها.
فمعناها الصحيح أن يسأل المرء عما يجهل، وألا يقدم على أمر لا يتبين حكمه حتى يسأل أهل العلم فيه، قال ابن عاشور عند تفسيره للآية “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ “{الحجرات:1}.
قال “َهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ، حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، مِنْ قِسْمِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّذِينَ تُعْرَضُ لَهُمْ”. اهـ.
فإن سأل المرء أهل العلم عما يجهل حكمه وعمل بما أفتوه كان معذورا حينئذ لقوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل: 43}.
وعن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: “مَن أُفتيَ بغيرِ عِلمٍ كان إثمُهُ على مَن أفتاهُ ». ورواه الحاكم في المستدرك (1/126) كتاب العلم، وقال: على شرطهما ووافقه الذهبي في تلخيصه. كما رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ومعنى الحديث: أنه لو كان هناك إثم بسبب خطإ الفتوى فيكون على المفتي دون المستفتى. قال الشوكاني: الْمَعْنَى مَنْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ كَانَ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ بِغَيْرِ الصَّوَابِ لَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي الْمُقَلِّدِ.
و قال القاري في مرقاة المفاتيح: يعني كل جاهل سأل عالما عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده- انتهى.
والحاصل أن من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم لا على متبعه، قال القاري: كل جاهل سأل عالما عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل، فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانه، فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده. هـ.
ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم هم المرادون بالآية السابقة فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل: 43}.
ولو لم يكن للعامة الأخذ بما يفتون به واتباع العلماء فيه لما كان للسؤال معنى.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: ” مَنْ قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَالِمًا بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ فَيُصْدِرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يخبره بِهِ فَمَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ وَلَا بُدُّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمِهِ فِيمَا جَهِلَ؛ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ”
ونقل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا يَعْمَى فِيهَا فَإِنَّمَا إِثْمُهَا عَلَيْهِ».
فعلى العالم المسؤول أن يتثبت مما يفتي به وأن يكون همه أولا ما ينجيه هو يقول ابن عبد البر قال ابن عمر: «يريد هؤلاء أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جهنم»
وكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إِلَى ابْنِ هُرْمُزَ، وَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا وَإِذَا سَأَلَهُ ابْنُ دِينَارٍ وَذَوُوهُ لَمْ يُجِبْهُمْ، فَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دِينَارٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لَا يَحِلُّ لَكَ؟ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يَسْأَلُكَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا وَأَسْأَلُكَ أَنَا وَذَوِي فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: «أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي قَدْ كَبُرَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي ” وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ إِذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ وَإِذَا سَمِعَا مِنِّي خَطَأً تَرَكَاهُ وَأَنْتَ وَذَوُوكَ مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْقُلُوبِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ”
وممن ذكر العبارة من الفقهاء ابن السراج، ففي كتاب الإتقان والإحكام على تحفة الحكام لميارة المالكي، أن يحيى السراج سئل فقيل له: ما تقول فيمن قلد الأبهري الذي يقول لا شيء في هذه اليمين سوى الاستغفار (أي الأيمان اللازمة)؟ أو قول ابن عبد البر الذي يقول إن عليه كفارة يمين؟
قال ابن السراج: فمن قلد ذلك فهو مخلص فإن من قلد عالما لقي الله سالما”.
وفي كتاب رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين الحنفي قال: “من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوت ألا يخاف لأنه قلد إماما عالما صحيح الاجتهاد سالم الاعتقاد، ومن قلد عالما لقي الله سالما”.
إذا تقرر هذا وقلنا إن القاعدة صحيحة والعبارة سليمة، وفق المعنى الذي بيناه، فإننا نقول أيضا بأنها ليست على إطلاقها ولا تصلح مطية لأصحاب اتباع الهوى ومتتبعي الترخص، فهناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم، ويتكئ أحدهم على أريكته ويقول من قلد علما لقي الله سالما، فيقال له: أخطأت إنما قلدت هواك. يقول النووي رحمه الله تعالى في روضة الطالبين: “والذي يقتضيه الدليل أنه ـ أي العامي ـ لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من يشاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص”.
ويقول التسولي في كتابه البهجة: “وقولهم من قلد عالما لقي الله سالما معناه إذا كان العالم مشهورا بالعلم والتقوى، فالتقوى تمنعه من أن يقول باطلا، والعلم يعرف به ما يقول، وإن لم يكن كذلك، فلا يجوز استفتاؤه ولا تقليده ومقلده مغرور لاحق له الوعيد المذكور”. يشير إلى ما ورد في الآية (رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} (الأعراف: 38)
ويقول الشيخ سيدي عبد الله الشنقيطي في المراقي:
وقول من قلد عالما لقي * الله سالما فغير مطلق
ثم قال في الشرح: “إنما يسلم إذا كان قول العالم راجحا، أو ضعيفا عمل به للضرورة مع حصول شروط العمل بالضعيف، أو لترجيحه عند ذلك العالم إن كان من أهل الترجيح”.
وإنما يسلم العامي إذا كان يجهل وجه الحجة، ولا يدري شيئا عن موارد الأدلة وكيفية الاستدلال، ولم يتبين له خطأ من أفتاه فاتبعه دون تعصب أعمى، ولا اتباع للهوى، بل لظنه أن ما أُفتاه به هو الحق الموافق لمراد الشرع، فإنه بذلك معذور، لأنه فعل ما في وسعه مما أمر به.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين:” المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور. اهـ.
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولًا وإن كان له فضل يتبع عليه؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] فإن قال: قصري وقلة همتي وعلمي يحملني على التقليد، قيل له: أما من قلد في نازلة معينة تنزل به من أحكام الشريعة عالمًا يتفق له على علمه فيصدر في ذلك علمًا يخبر به فمعذور؛ لأنه قد أتى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالمه فيما جهله. انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. اهـ.
وبهذا نتبين أن قولهم: “من قلد عالما لقي الله سالما” عبارة صحيحة لكن ليست على إطلاقها، كما أنها تستعمل أحيانا في غير محلها وتحمل على غير معناها، فليسأل الجاهل من يثق فيه علمه وورعه، وليعمل بما يفتى به وهو معذور عند الله عز وجل حينئذ.
لا أن ينتقي من الأقوال ما يوافق هواه، ويظل يسأل فلانا وفلانا حتى يجد ما يصادف مبتغاه فهو يخادع نفسه ولا يبحث عن حكم الله.
 المصدر: إسلام أون لاين

المراجع
– جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر2/860.
– البهجة في شرح تحفة الحكام للتسولي 2/703.
– الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام المعروف بشرح ميارة للفاسي 1/234.
– مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 7/71.
– إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/163.
– مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للهروي. 1/381.

 

 

 

Image

المرء مع من أحب

غاية الإكرام أن تحب إنسانا فتبلغ مناك في اللحاق به وإن قصر بك عملك عن درجته، وقد وقعت هذه البشارة موقعها من قلوب المحبين المتولهين بحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب أصحابه لما سمعوها منه فقد قال  قائلهم ـ: ” ما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذا الحديث “.
وكان ثوبان رضي الله عنه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له وكان يراوده هذا الهاجس، يخاف ألا يلقى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت بسبب تفاوت الدرجات، وفيه نزلت آية سورة النساء، قال القرطبي: كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
” ما غير لونك؟! “. قال: يا رسول الله.. ما بي ضر ولا وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبداً، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
وعند الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: والله إنك لأحب إلى من نفسي، وإنك أحب إلي من أهلي ومالي وأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} الآية.
بهذه المحبة الصادقة وبهذا التعلق استحقوا هذا الإكرام،”المرء مع من أحب” فيا لها من نعمة على المحبين سابغة. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله  كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد! فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المرء مع من أحب. وفي رواية البخاري” كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟، فقال: المرء مع من أحب”.
فألحقه عليه السلام بحسن النية من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة كما يقول الخطابي رحمه الله.
وعند البخاري أيضا من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم – فقال له: “متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنّي أحبّ الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت” رواه البخاري.
يقول أنس ـ رضي الله عنه ـ بعد ما ذكر هذا الحديث: ” فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ يقول: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ”.

وهذا فيه فضل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصالحين ، وأهل الخير ، الأحياء والأموات… ولا يشترط في الانتفاع بمحبة الصالحين أن يعمل عملهم ؛ إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم كما قال النووي رحمه الله.
ومما ينسب إلى ابن حجر رحمه الله قوله:
وقائل هل عمل صـــــــــــالح … أعددته يدفع عنك الكرب
فقلت حسبي خدمة المصطفى … وحبــــه فالمرء من أحب
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
 أحب الصالحين ولستُ منهم *** وأرجو أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي *** وإن كنا سواء في البضاعة
فقال له الإمام أحمد رحمه الله:
 تحب الصالحين وأنت منهم *** ومنكم سوف يلقون الشفاعة
وتكره من بضاعته المعاصي *** حماك الله من تلك البضاعة
ولحاق المحبوب بمن أحب وكونه معه لا يلزم منه أن تكون منزلته وجزاؤه مثله من كل وجه قال ابن حجر في الفتح قوله: “إنك مع من أحببت أي ملحق بهم حتى تكون في زمرتهم … وإن تفاوتت الدرجات” اهـ.
ضابط المحبة التي تنفع صاحبها
ليس الأمر هنا على إطلاقها فليست كل دعوى محبة نافعة لصاحبها ” فلا ينتفع من ادعى محبة قوم، وخالفهم في أخلاقهم، وأعمالهم رغبة عنها بمحبتهم، ولا يلحقه ذلك بهم.
وكذلك – أيضاً – لو كان مشتغلاً عن متابعتهم، وموافقتهم بما هو فيه من شهوات النفس، وتُرَّهَاتِ الهوى، والعكوف على تحصيل الدنيا بأي وجه تيسرت به، بحيث غلب عليه الظلم والغش والمكر والخديعة وغير ذلك؛ فإنَّ ما يدعيه من محبتهم لا ينفعه، ولا يلحقه بهم؛ لأنه مجرد تَمَنٍّ، ومحضُ ادِّعاء لا يجدي، وكيف تثبت له محبتهم وقد عكف على أوصاف من سواهم، وجاء بأعمال من عداهم ممن ليسوا منهم؟.
ومن هذا القبيل محبة الظَّلَمةِ والفَسَقةِ للصالحين، وتقربهم من المباركين بعرض أموالهم عليهم، وإرسال الهدايا إليهم، وهم مُكِبُّوْنَ على ظلمهم للناس، وإسرافهم على أنفسهم، فهؤلاء لا تنفعهم محبة الصالحين، ولا تلحقهم بهم.
واما من  كانت مخالفته لهم لا على طريق الرغبة عن أخلاقهم، ولا على سبيل الأَنَفَةِ من أحوالهم، بل كان ذلك على سبيل العجز والتقصير عن بلوغ درجاتهم، والانحطاط عن عُلُوِّ همتهم، أو على وجه غلبة الهوى عليه، وضعفه عن مصادمته ومخالفته، فوقعت منه الزلة، وألَمَّ تلك اللمة، ولو تيسر له اللحاق بهم في وصفٍ لم يتأخر عن الاتصاف به، أو في خُلقٍ لم يتوان عن التخلق به، فهذه المخالفة والتقصير لا يُقعدانه عن اللحاق بمن يحبهم، ولا يؤخره عن الكينونة معهم، وعلى ذلك تحمل الأحاديث والآثار الواردة في ذلك”. كما قال الغزي رحمه الله تعالى في حسن التنبه لما ورد في التشبه.
المحبة إذا تجارة رابحة لكنها تستلزم الموافقة والمتابعة وإلا كانت مجرد دعوى ولله در رابعة العدوية إذ قالت:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ … هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ … إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ.
المصدر: إسلام أون لاين

مراجع:
تفسير القرطبي: 5/271.
فتح الباري لابن حجر: 10/555.
شرح النووي على صحيح مسلم: 16/186.
حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 4/735.
حسن التنبه لما ورد في التشبه للغزي الدمشقي:  1/31.