Image

بيع سلعة رديئة مع سلعة جيدة رائجة


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أود الاستفسار منكم حول ما يفعله بعض التجار من ربط سلعة غير رائجة بسلعة رائجة فلا يبعون الرائجة إلا مع الثانية، فيستغلون حاجة المرء إلى السلعة الرائجة ليبيعوه السلعة غير الرائجة معها فهل يجوز ذلك وهل يصح هذا البيع. أفيدونا أفادكم الله وحفظكم من كل مكروه.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

فربط التاجر بين سلعتين أو أكثر في البيع بقصد ترويج غير الرائج  أوغير ذلك لا يمنع صحة البيع ، ولم تزل عادة التجار على ذلك الفعل، ولا فرق هنا بين أن تكون السلع متفقة في الجنس أو مختلفة، فلو قال التاجر مثلا: أنا لا أبيع هذه السيارة إلا مع هذا العقار، أو لا أبيع هذا القميص إلا مع هذا الإناء، أو لا أبيع هذه الشاة إلا مع هذه البقرة، او لا أبيع، الناقة إلا مع ولدها ... وهكذا.

فيصح اشتراط البائع الجمع بين سلعتين في البيع معا، إذا كانتا معلومتين، وكان الثمن معلوما، ولو كانت إحدى السلعتين رائجة والأخرى  كاسدة، وسواء جعل لهما ثمنا واحدا دون تفصيل، أو تم تبين ثمن كل سلعة، وهذا هو الأولى.

سئل الشيخ عليش المالكي رحمه الله تعالى: "عما يقع في بعض الأرياف من بيع الرجل البقرة بنتاجها، أو النعجة بنتاجها, ولم يفصّل ما لكل منهما من الثمن. فهل إذا قام أحد المتبايعين يريد إبطال البيع بسبب ذلك، ليس له ذلك؟

فأجاب: نعم، ليس له ذلك؛ لانتفاء الجهل عن الثمن، والمثمن جملة، وتفصيلا؛ لعلم المتبايعين أن الثمن، والمُثْمن البقرة، وولدها مثلا، ولا ينافي هذا عدم تفصيل ما لكل منهما منها...". انتهى من فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك 2/ 99.

وفي شرح مختصر خليل للخرشي ممزوجا بنص المختصر:  5/32 (ويجوز بيع ثمر الحائطين جزافا وإن اختلف تمرهما بثمن واحد و يجوز مكيلان كذلك صفقة واحدة "وجزاف مع عرض" أي ويجوز جزاف على أصله أو غير أصله كصبرة أو قطعة أرض مع عرض...).

وفي المحيط البرهاني في الفقه النعماني 6/280 (وفي الصفقة الواحدة ضم الرديء إلى الجيد في البيع والحط عن بعض ثمن الجيد معتاد فيما بين الناس).

وقال الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع 5/136"والصفقة إذا وقعت مجتمعة من البائع لا يملك المشتري تفريقها قبل التمام؛ لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد ترويجا للرديء بواسطة الجيد فلو ثبت للمشتري ولاية التفريق لقبل في الجيد دون الرديء فيتضرر به البائع، والضرر منفي؛ ولأن غرض الترويج لا يحصل إلا بالقبول فيهما جميعا فلا يكون راضيا بالقبول في أحدهما".

ولكن القول بصحة هذا البيع لا ينافي كراهته؛ لما فيه من استغلال حاجة الناس؛ ولأن الإسلام قد دعا إلى التسامح في البيع واجتناب الجشع والأنانية، ففي حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى" رواه البخاري.

فهذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم لمن يتصف بذلك ويلتزم هذا السلوك في معاملاتها كما قال ابن حبيب المالكي.

والسماحة السهولة فالتاجر السمح هو الذي لا يستقصي في طلب الربح والمشتري السمح هو الذي لا يستقصي في الاسترخاص.

والسمح في الاقتضاء هو الذي يطلب قضاء حقه بسهولة، وعدم إلحاح.

فهذه هي أخلاق التاجر المسلم التي حثه الشارع على الاتصاف بها، وتجنب ما يخالفها ومن ذلك استغلال حاجة الناس، واحتكار السلع عنهم حتى يرتفع ثمنها وغير ذلك مما فيه جشع وحب للذات.

فينبغي للتاجر الحرص على هذه الأخلاق ولن يندم بإذن الله تعالى. والله أعلم.

Image

هل يدخل أولاد البنات في الذرية حال الوقف أو الوصية.


السؤال

إذا قال الواقف أوقفت هذه الأرض أو هذه العمارة على فلان وعلى زوجاته وأولاده وتلامذته وذريته ونسله وعقبه.

فهل يدخل أولاد البنات في الوقف هنا أم لا.

الحمد لله  والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

فدخول أولاد البنات فيمن ينتفع بغلة الوقف هنا بين لأنهم من الذرية وقد قال ابن العطار من المالكية: "الذرية تشمل ولد البنات اتفاقا لقوله تعالى: {ومن ذريته داود} [الأنعام: 84] إلى قوله تعالى {وعيسى} وهو ولد بنت". وانظر المقدمات الممهدات لابن رشد2/437. والتاج والإكليل للمواق  7/664.

ومع ما استدل به ابن العطار يستدل كذلك على شمول الرية لابن البنت بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن: ابني هذا سيد..."، وهو ولد بنته. والحديث في صحيح البخاري.

ودخول أولاد البنات في الذرية حال الوقف عليها أو الوصية لها ذهب إليه بعض الحنابلة كأبي بكر، وابن حامد؛ لأن البنات من ذرية الموقوف عليه في قول الواقف على فلان وذريته من بعده، أو قوله لذريتي من بعدي، وقول أبي بكر وابن حامد حكاه عنهما أبو الخطاب في الهداية. وكذا حكاه القاضي عنهما فيما حكاه صاحب المستوعب، والتلخيص، كما ذكر المرداوي في الإنصاف بل قال:" إن كان في اللفظ ما يقتضي الدخول. فإنهم يدخلون بلا خلاف... ثم قال: وقال مالك بالدخول في الذرية دون العقب، وبه أقول. ". 7./81.

وما ورد في صيغة الوصية من تنويع الألفاظ الأولاد والذرية والنسل والعقب قرينة دالة على قصد العموم فيما تتناوله تلك الألفاظ على اختلاف مدلولها. والعطف بالواو المقتضي للمغايرة.

وقد قال ابن مفلح في المبدع في شرح المقنع من كتب الحنابلة 5/175:" والقول بدخولهم هو رواية ثابتة عن أحمد، قدمها في  المحرر  و  الرعاية ، واختارها أبو الخطاب في الهداية ؛ لأن البنات أولاده، فأولادهن أولاد أولاده حقيقة؛ لقوله تعالى: {ومن ذريته داود} [الأنعام: 84] وإلى قوله: {وعيسى} [البقرة: 136] ، وهو ولد بنته، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ، يعني الحسن، رواه البخاري. قال في " الشرح ": والقول بدخولهم أصح وأقوى دليلا. انتهى

وكما أشرت سابقا فإن قول الواقف "وعلى أولاده وذريته ونسله وعقبه" ظاهر في قصد دخول أولاد البنات وإلا لم يأت بكل هذه الألفاظ المختلفة الدلالة، لأن أولاد الأولاد يكفي في دخولهم أي لفظ من تلك الألفاظ، ومحل الخلاف هو أولاد البنات ولذا نوع الواقف الألفاظ وأتى بالذرية ليتناولهم الوقف. بل قال ابن رشد: ابن رشد:" صحيح في أن ولد بنت الرجل من ذريته وكذا نقول في نسله وعقبه" انتهى. من التاج والإكيل.

وعلى هذا فأولاد البنات ممن يستحق ريع ذلك الوقف.

والله أعلم

Image

يسوى بين الذكر والأنثى في غلة الوقف عند الإطلاق


السؤال

إذا قال الواقف أوقفت هذه الأرض أو العمارة على فلان  وأولاده من بعده، لينتفعوا بها في السكنى فقط.

فهل يسوى بين الذكر والأنثى أم يميز الذكر بضعف ما للأنثى؟.

وإذا كانت الأرض غير صالحة للسكنى واستخدمت في غرض تجاري له ريع فهل ريعه ينتفع به من كان حاضرا في نفس المكان فقط ؟، وأما من كان خارجه: في بلد آخر، أو مدينة أخرى، فلا يقسم له في الريع؟.

وإذا كان الريع يمكن أن يستأجر منه للموقوف عليهم ويبقى فضل فهل يعطون الفاضل نقدا؟.

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

فقد تضمن السؤال نقاطا يمكن إجمال الجواب عنها فيما يلي:

1-    يسوى بين الذكر والأنثى في غلة الوقف ولا يميز الذكر لذكورته. هذا من حيث الأصل لأن الواقف لم يميز الذكور بشيء دون الإناث قال خليل في مختصره " وَحُمِلَ فِي الإِطْلَاقِ عَلَيْهِ، كَتَسْوِيَةِ أُنْثَى بِذَكَرٍ".

وفي التاج والإكليل للمواق:" يحمل قول الواقف داري وقف على أولادي ولم يبين تفضيل أحد على أحد على التسوية بين الذكر والأنثى في المصرف فإن بين شيئا اتبع".
وقال ابن قدامة في المغني من كتب الحنابلة:" إذا وقف على أولاد رجل وأولاد أولاده استوى فيه الذكر والأنثى، لأنه تشريك بينهم، وإطلاق التشريك يقتضي التسوية، كما لو أقر لهم بشيء، ولا أعلم في هذا خلافا. اهـ.

 لكن للناظر أن يجتهد في قسمة الغلة، فمن يحتاج شقة صغيرة تندفع بها حاجته لقلة أفراد أسرته لا يعطى شقة كبيرة ومن يحتاج شقة كبيرة لكثرة عياله يعطى بحسب حاجته، كالنفقة؛ فمصروف الابن في الثانوية ليس كمصروف الابن قبل دخول المدرسة، وتفاضل المصروف هنا ليس تفضيلا؛ بل هو مراعاة للحاجة وهكذا.
وبالتالي فتمييز المحتاج ليس تفضيلا له وهذا مما يناسب قصد الواقف من حيث دفع حاجة هؤلاء، فقد تعطى الأنثى شقة أكبر أو تستأجر لها شقة أغلى لسعتها باعتبار حاجتها، وقد يفعل ذلك مع الذكر حسب المقتضي وهكذا.

2-  من لم يكن حاضرا بمكان الوقف لا يستحق الانتفاع فيما يظهر من لفظ الواقف لأنه قال للسكنى فقط ، والسكنى بالأرض الموقوفة يقتضي وجود المنتفع في نفس المكان، وغلة الأرض تعامل معاملة الانتفاع بعينها، فيؤجر من ريع البناء التجاري لمن هم في نفس المكان فإن فضل شيء، فلا بأس حينئذ أن يدفع لمن هم خارج المكان ليستأجروا به مساكن ويتحرى الناظر في ذلك أشدهم حاجة وأقربهم إلى بلد الوقف. هذا إذا لم يحتج الوقف للفاضل ليرد في صيانته وتعاهده. وأما استثمار غلة الوقف فلا يكون مع وجود حاجة الموقوف عليهم.

3-  ما زاد من غلة الوقف عن حاجة السكنى يمكن صرفه للموقوف عليهم ليدفعوه في حاجات السكنى كالماء والكهرباء ونحو ذلك ويمكن التوسعة به عليهم باعتبار أن الواقف لم يقيد الانتفاع بمقدار الحاجة بل قال وقفت هذه الأرض على ولدي وذريته إلخ.

وغلة تلك الأرض تعامل معاملة الانتفاع بعينها. والله أعلم

Image

هل من قلد عالما لقي الله سالما

 

عبارة شائعة ذائعة، وإن لم يكن بهذا اللفظ فبمعناه حسب اختلاف اللهجات وتنوع العبارات.

فما مدى صحتها، وهل لها أصل يعتمد عليه؟
أما عن صحة العبارة فهي صحيحة،  لكنها ليست على إطلاقها، ولها أصل من الكتاب، وأصل من السنة لا يقل عن درجة الحسن، وقد ذكرها بعض أهل العلم تقعيدا وتقريرا، لكن الناس أسرفوا في استخدامها والاستدلال بها في غير محلها.
فمعناها الصحيح أن يسأل المرء عما يجهل، وألا يقدم على أمر لا يتبين حكمه حتى يسأل أهل العلم فيه، قال ابن عاشور عند تفسيره للآية “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ “{الحجرات:1}.
قال “َهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ، حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، مِنْ قِسْمِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّذِينَ تُعْرَضُ لَهُمْ”. اهـ.
فإن سأل المرء أهل العلم عما يجهل حكمه وعمل بما أفتوه كان معذورا حينئذ لقوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل: 43}.
وعن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: “مَن أُفتيَ بغيرِ عِلمٍ كان إثمُهُ على مَن أفتاهُ ». ورواه الحاكم في المستدرك (1/126) كتاب العلم، وقال: على شرطهما ووافقه الذهبي في تلخيصه. كما رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ومعنى الحديث: أنه لو كان هناك إثم بسبب خطإ الفتوى فيكون على المفتي دون المستفتى. قال الشوكاني: الْمَعْنَى مَنْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ كَانَ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ بِغَيْرِ الصَّوَابِ لَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي الْمُقَلِّدِ.
و قال القاري في مرقاة المفاتيح: يعني كل جاهل سأل عالما عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده- انتهى.
والحاصل أن من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم لا على متبعه، قال القاري: كل جاهل سأل عالما عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل، فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانه، فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده. هـ.
ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم هم المرادون بالآية السابقة فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل: 43}.
ولو لم يكن للعامة الأخذ بما يفتون به واتباع العلماء فيه لما كان للسؤال معنى.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: ” مَنْ قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَالِمًا بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ فَيُصْدِرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يخبره بِهِ فَمَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ وَلَا بُدُّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمِهِ فِيمَا جَهِلَ؛ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ”
ونقل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا يَعْمَى فِيهَا فَإِنَّمَا إِثْمُهَا عَلَيْهِ».
فعلى العالم المسؤول أن يتثبت مما يفتي به وأن يكون همه أولا ما ينجيه هو يقول ابن عبد البر قال ابن عمر: «يريد هؤلاء أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جهنم»
وكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إِلَى ابْنِ هُرْمُزَ، وَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا وَإِذَا سَأَلَهُ ابْنُ دِينَارٍ وَذَوُوهُ لَمْ يُجِبْهُمْ، فَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دِينَارٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لَا يَحِلُّ لَكَ؟ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يَسْأَلُكَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا وَأَسْأَلُكَ أَنَا وَذَوِي فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: «أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي قَدْ كَبُرَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي ” وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ إِذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ وَإِذَا سَمِعَا مِنِّي خَطَأً تَرَكَاهُ وَأَنْتَ وَذَوُوكَ مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْقُلُوبِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ”
وممن ذكر العبارة من الفقهاء ابن السراج، ففي كتاب الإتقان والإحكام على تحفة الحكام لميارة المالكي، أن يحيى السراج سئل فقيل له: ما تقول فيمن قلد الأبهري الذي يقول لا شيء في هذه اليمين سوى الاستغفار (أي الأيمان اللازمة)؟ أو قول ابن عبد البر الذي يقول إن عليه كفارة يمين؟
قال ابن السراج: فمن قلد ذلك فهو مخلص فإن من قلد عالما لقي الله سالما”.
وفي كتاب رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين الحنفي قال: “من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوت ألا يخاف لأنه قلد إماما عالما صحيح الاجتهاد سالم الاعتقاد، ومن قلد عالما لقي الله سالما”.
إذا تقرر هذا وقلنا إن القاعدة صحيحة والعبارة سليمة، وفق المعنى الذي بيناه، فإننا نقول أيضا بأنها ليست على إطلاقها ولا تصلح مطية لأصحاب اتباع الهوى ومتتبعي الترخص، فهناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم، ويتكئ أحدهم على أريكته ويقول من قلد علما لقي الله سالما، فيقال له: أخطأت إنما قلدت هواك. يقول النووي رحمه الله تعالى في روضة الطالبين: “والذي يقتضيه الدليل أنه ـ أي العامي ـ لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من يشاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص”.
ويقول التسولي في كتابه البهجة: “وقولهم من قلد عالما لقي الله سالما معناه إذا كان العالم مشهورا بالعلم والتقوى، فالتقوى تمنعه من أن يقول باطلا، والعلم يعرف به ما يقول، وإن لم يكن كذلك، فلا يجوز استفتاؤه ولا تقليده ومقلده مغرور لاحق له الوعيد المذكور”. يشير إلى ما ورد في الآية (رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} (الأعراف: 38)
ويقول الشيخ سيدي عبد الله الشنقيطي في المراقي:
وقول من قلد عالما لقي * الله سالما فغير مطلق
ثم قال في الشرح: “إنما يسلم إذا كان قول العالم راجحا، أو ضعيفا عمل به للضرورة مع حصول شروط العمل بالضعيف، أو لترجيحه عند ذلك العالم إن كان من أهل الترجيح”.
وإنما يسلم العامي إذا كان يجهل وجه الحجة، ولا يدري شيئا عن موارد الأدلة وكيفية الاستدلال، ولم يتبين له خطأ من أفتاه فاتبعه دون تعصب أعمى، ولا اتباع للهوى، بل لظنه أن ما أُفتاه به هو الحق الموافق لمراد الشرع، فإنه بذلك معذور، لأنه فعل ما في وسعه مما أمر به.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين:” المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور. اهـ.
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولًا وإن كان له فضل يتبع عليه؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] فإن قال: قصري وقلة همتي وعلمي يحملني على التقليد، قيل له: أما من قلد في نازلة معينة تنزل به من أحكام الشريعة عالمًا يتفق له على علمه فيصدر في ذلك علمًا يخبر به فمعذور؛ لأنه قد أتى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالمه فيما جهله. انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. اهـ.
وبهذا نتبين أن قولهم: “من قلد عالما لقي الله سالما” عبارة صحيحة لكن ليست على إطلاقها، كما أنها تستعمل أحيانا في غير محلها وتحمل على غير معناها، فليسأل الجاهل من يثق فيه علمه وورعه، وليعمل بما يفتى به وهو معذور عند الله عز وجل حينئذ.
لا أن ينتقي من الأقوال ما يوافق هواه، ويظل يسأل فلانا وفلانا حتى يجد ما يصادف مبتغاه فهو يخادع نفسه ولا يبحث عن حكم الله.
 المصدر: إسلام أون لاين

المراجع
– جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر2/860.
– البهجة في شرح تحفة الحكام للتسولي 2/703.
– الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام المعروف بشرح ميارة للفاسي 1/234.
– مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 7/71.
– إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/163.
– مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للهروي. 1/381.

 

 

 

Image

المرء مع من أحب

غاية الإكرام أن تحب إنسانا فتبلغ مناك في اللحاق به وإن قصر بك عملك عن درجته، وقد وقعت هذه البشارة موقعها من قلوب المحبين المتولهين بحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب أصحابه لما سمعوها منه فقد قال  قائلهم ـ: ” ما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذا الحديث “.
وكان ثوبان رضي الله عنه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له وكان يراوده هذا الهاجس، يخاف ألا يلقى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت بسبب تفاوت الدرجات، وفيه نزلت آية سورة النساء، قال القرطبي: كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
” ما غير لونك؟! “. قال: يا رسول الله.. ما بي ضر ولا وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبداً، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
وعند الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: والله إنك لأحب إلى من نفسي، وإنك أحب إلي من أهلي ومالي وأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} الآية.
بهذه المحبة الصادقة وبهذا التعلق استحقوا هذا الإكرام،”المرء مع من أحب” فيا لها من نعمة على المحبين سابغة. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله  كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد! فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المرء مع من أحب. وفي رواية البخاري” كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟، فقال: المرء مع من أحب”.
فألحقه عليه السلام بحسن النية من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة كما يقول الخطابي رحمه الله.
وعند البخاري أيضا من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم – فقال له: “متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنّي أحبّ الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت” رواه البخاري.
يقول أنس ـ رضي الله عنه ـ بعد ما ذكر هذا الحديث: ” فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ يقول: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ”.

وهذا فيه فضل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصالحين ، وأهل الخير ، الأحياء والأموات… ولا يشترط في الانتفاع بمحبة الصالحين أن يعمل عملهم ؛ إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم كما قال النووي رحمه الله.
ومما ينسب إلى ابن حجر رحمه الله قوله:
وقائل هل عمل صـــــــــــالح … أعددته يدفع عنك الكرب
فقلت حسبي خدمة المصطفى … وحبــــه فالمرء من أحب
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
 أحب الصالحين ولستُ منهم *** وأرجو أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي *** وإن كنا سواء في البضاعة
فقال له الإمام أحمد رحمه الله:
 تحب الصالحين وأنت منهم *** ومنكم سوف يلقون الشفاعة
وتكره من بضاعته المعاصي *** حماك الله من تلك البضاعة
ولحاق المحبوب بمن أحب وكونه معه لا يلزم منه أن تكون منزلته وجزاؤه مثله من كل وجه قال ابن حجر في الفتح قوله: “إنك مع من أحببت أي ملحق بهم حتى تكون في زمرتهم … وإن تفاوتت الدرجات” اهـ.
ضابط المحبة التي تنفع صاحبها
ليس الأمر هنا على إطلاقها فليست كل دعوى محبة نافعة لصاحبها ” فلا ينتفع من ادعى محبة قوم، وخالفهم في أخلاقهم، وأعمالهم رغبة عنها بمحبتهم، ولا يلحقه ذلك بهم.
وكذلك – أيضاً – لو كان مشتغلاً عن متابعتهم، وموافقتهم بما هو فيه من شهوات النفس، وتُرَّهَاتِ الهوى، والعكوف على تحصيل الدنيا بأي وجه تيسرت به، بحيث غلب عليه الظلم والغش والمكر والخديعة وغير ذلك؛ فإنَّ ما يدعيه من محبتهم لا ينفعه، ولا يلحقه بهم؛ لأنه مجرد تَمَنٍّ، ومحضُ ادِّعاء لا يجدي، وكيف تثبت له محبتهم وقد عكف على أوصاف من سواهم، وجاء بأعمال من عداهم ممن ليسوا منهم؟.
ومن هذا القبيل محبة الظَّلَمةِ والفَسَقةِ للصالحين، وتقربهم من المباركين بعرض أموالهم عليهم، وإرسال الهدايا إليهم، وهم مُكِبُّوْنَ على ظلمهم للناس، وإسرافهم على أنفسهم، فهؤلاء لا تنفعهم محبة الصالحين، ولا تلحقهم بهم.
واما من  كانت مخالفته لهم لا على طريق الرغبة عن أخلاقهم، ولا على سبيل الأَنَفَةِ من أحوالهم، بل كان ذلك على سبيل العجز والتقصير عن بلوغ درجاتهم، والانحطاط عن عُلُوِّ همتهم، أو على وجه غلبة الهوى عليه، وضعفه عن مصادمته ومخالفته، فوقعت منه الزلة، وألَمَّ تلك اللمة، ولو تيسر له اللحاق بهم في وصفٍ لم يتأخر عن الاتصاف به، أو في خُلقٍ لم يتوان عن التخلق به، فهذه المخالفة والتقصير لا يُقعدانه عن اللحاق بمن يحبهم، ولا يؤخره عن الكينونة معهم، وعلى ذلك تحمل الأحاديث والآثار الواردة في ذلك”. كما قال الغزي رحمه الله تعالى في حسن التنبه لما ورد في التشبه.
المحبة إذا تجارة رابحة لكنها تستلزم الموافقة والمتابعة وإلا كانت مجرد دعوى ولله در رابعة العدوية إذ قالت:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ … هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ … إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ.
المصدر: إسلام أون لاين

مراجع:
تفسير القرطبي: 5/271.
فتح الباري لابن حجر: 10/555.
شرح النووي على صحيح مسلم: 16/186.
حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 4/735.
حسن التنبه لما ورد في التشبه للغزي الدمشقي:  1/31.

Image

استرعاء الطلاق


السؤال
رجل تسبه زوجته أمام الناس ولم يدر كيف يتحاشى شتمها له وشغبها عليه  فدل على أن يسترعي  في طلاقها  وان يعلن لها الطلاق  لتكف عن شتمه ففعل ذلك فهل ينفعه الاسترعاء في هذه الحالة أم لا ؟

 

الجواب

الحمد لله وبعد فالاسترعاء أو الإيداع أو الاستحفاظ ، هو إيداع الشهادة عند شهود أربعة عند بعض أهل العلم، أواثنان، على أنه إن طلق زوجته مثلا لحاجة ألجأته إلى ذلك فطلاقه غير واقع إذ لا يقصده وإنما يدفع به الضرر عن نفسه.

وهذا الاسترعاء معتبر عند المالكية يصح ويفيد صاحبه في كل تصرف تطوعي كالطلاق والوقف والهبة. فإن فعل لم يلزمه أن ينفذ شيئا من ذلك، وإن لم يعلم الشهود السبب، قال ابن فرحون المالكي في التبصرة: "الاسترعاء يجري في كل تطوع كالعتق، والتدبير والطلاق، والتحبيس والهبة... ولا يلزمه أن يفعل شيئاً من ذلك، وإن لم يُعلم السبب إلا بقوله، مثل أن يشهد إن طلقت فإنما أطلق خوفاً من أمرٍ أتوقعه من جهة كذا، أو حلف بالطلاق، وكان أَشْهدَ أني إن حلفت بالطلاق فإنما هو لأجل إكراه، ونحو ذلك... وشرط الاسترعاء تقدمه على الفعل، وتجزئ فيه شهادة شاهدين، وكلما كان الشهود أكثر كان أفضل، واشترط ابن الماجشون أربعة شهود." انتهى ملخصاً من التبصرة. وهي من كتب المالكية المعتمدة كما قال القلاوي في نظمه بوطليحية:

واعتمدوا تبصرة الفرحون ** وركبوا في فلكها المشحون

كما جاء في الإعلام بنوازل الأحكام لعيسى بن سهل الجياني القرطبي الغرناطي أبو الأَصْبَغ (المتوفى: 486هـ)

"كل من استرعى في شيء تطوع لا يضم إليه كالعتق والطلاق وشبهه؛ يريد كالحبس نفعه الاسترعاء ولم يلزمه، ونحوه في وثائق ابن العطار قال: ويصدق المسترعي فيما يذكره من المتوقع وإن لم يعرف شهود الاسترعاء ذلك. قال: وإنما يجوز الاسترعاء في الحبس، وشبهه؛ لأنه تبرع بالحبس، ولو شاء لم يفعل".

وجاء في توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام لعثمان المكي الزبيدي أنه ورد " في نوازل الطلاق من المعيار سئل الشيخ العبدوسي عن رجل سألت منه زوجته أن يحرم لها ضرتها ويطلقها وشدت عليه في ذلك فاستحفظ على ذلك بشهوده بأن قال مهما طلق زوجته فلانة بأي طلاق كان أو حرمها بأي تحريم كان أو قال متى حلت حرمت فغير ملتزم لذلك وأنه مبطله فطلقها وحرمها وقال متى حلت حرمت عليه فهل ينفعه استرعاؤه في ذلك أم لا فأجاب أنه لا يلزمه تحريمها على الوجه المذكور لأجل استرعائه على الوجه المذكور وهي باقية في عصمته حيث لم يقصد تحريمها حال تحريمها لفظًا فإن قصده فلا ينفعه الاستحفاظ "اهـ

وبناء عليه فلا يلزم الطلاق في المسألة المذكورة لأن الزوج استرعى دفعا لضرر زوجته إذ تسبه وتشغب عليه فيرجو إن ذكر لها الطلاق أن تكف عن سبه وشتمه وأذيتها له.

  ومعلوم أن السب والشتم ونحوه مما فيه أذية بالغة وضرر عظيم إلا في حق من وصفهم القائل:

ومن يهن يسهل الهوان عليه ** ما لجرح بميت إيلام.

وليس الأصل في حال الناس كذلك، والسباب والشغب قد يكون أشد مما ذكر في نوازل الطلاق من المعيار أن من سألته زوجته أن يحرم لها ضرتها ويطلقها وشدت عليه فاسترعى فإن ذلك ينفعه.

 والله تعالى أعلم

Image

حكم المسافر إذا مر بوطن له فيه عقار هل ينحل سفره بذلك أولا


السلام عليكم

سائل يسأل: يقيم في بلدين ( السعودية وقطر) وله في كلّ منهما بيت، ويسافر بين البلدين باستمرار .

 فهل له أن يقصر ويجمع إذا كان مدة إقامته في أحد البلدين أقل من أسبوع.

 أفتونا مأجورين
 
الحمد لله وبعد  فالجواب أن السائل يقيم في البلدين معا وكل منهما يعتبر له وطنا بحكم الإقامة والمكث فيه فإذا جاءه فقد جاء إلى وطنه ولولم يكن يملك به عقارا وعليه فينحل سفره بذلك ويتم صلاته قال خليل في مختصره "وقطعه: دخول وطنه."  قال عليش في منح الجليل  ممزوجا بتمن خليل (وقطعه دخول وطنه المار هو عليه بأن كان مقيما بمحل غير وطنه وسافر منه إلى بلد آخر ووطنه في أثناء الطريق فلما مر عليه دخله فيتم به ولو لم ينو إقامة أربعة أيام).

وقال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: (والحاصل أن دخول بلده أو وطنه يقطع القصر ولو كان ناويا للسفر حيث لم يرفض سكناها فإن رفض سكناها فلا يكون دخوله موجبا للإتمام إلا إذا نوى إقامة أربعة أيام ومحل اعتبار الرفض إذا لم يكن له بها أهل حين الرفض فإن كان بها له أهل أي زوجة فلا عبرة به.)
وقد ذكر بعض فقهاء المالكية هنا أن من أقام بمكة بضعة عشر يوما فأوطنها ثم أراد أن يخرج إلى الجحفة مثلا ثم يعود إلى مكة ويقيم اليوم واليومين ثم يخرج منها فقال مالك رحمه الله تعالى  يتم في يوميه، ووجه ابن يونس ذلك القول بأن الإقامة فيها أكسبتها حكم الوطن. ذكره عليش في منح الجليل 408/1 
فإذا كانت إقامه أربعة أيام فأكثر تكسبه صفة المواطنة وأحكامها فكيف بمن يتخذ القرية إقامة دائمة أو طويلة على نحو متكرر ويتخذ بها سكنا لذلك.
 
وأما ملكية العقار بمكان ما دون اتخاده وطنا ومكانا للإقامة فهذا لا يؤثر في حكم السفر ولا يلزم المسافر بسببه الإتمام على الصحيح  فقد كان الصحابة إذا قدموا مكة بعد الهجرة يقصرون الصلاة، وكان لبعضهم فيها دور وعقار، ولم يكن ذلك مانعا لهم من القصر والترخص برخص السفر. قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ في الأم عن المسافر يمر ببلد له فيها عقار: " قد قصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه عام الفتح وفي حجته وفي حجة أبي بكر ولعدد منهم بمكة دار، أو أكثر وقرابات منهم أبو بكر له بمكة دار وقرابة، وعمر له بمكة دور كثيرة، وعثمان له بمكة دار وقرابة فلم أعلم منهم أحدا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإتمام ولا أتم ولا أتموا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدومهم مكة، بل حفظ عمن حفظ عنه منهم القصر بها." اهـ.
 
 
لكن السائل يقيم في البلدين معا فكل منهما له وطن وبالتالي فإذا وصل إلى أي منهما فإنه يكون مقيما وعليه أن يتم صلاته  فلا يقصر ولا يجمع ولا يترخص برخص السفر مالم يرفض السكنى بأحدهما فيقطع ذلك حكم مواطنته له .

والله أعلم



 

 
 


 
 
 

Image

حكم التلفيق في العبادة الواحدة


السلام عليكم

سائل يسأل:  هل يجوز له أن يقصر ويجمع في المدة المقررة عند الحنفية خمسة عشر يوما . أي يأخذ من مذهب الشافعي الجمع ومن مذهب أبي حنيفة القصر .

 أفتونا مأجورين
 
 
الحمد لله وبعد
فالجواب أن مسألة التلفيق  وهو التقليد المركب من مذهبين فأكثر في عبادة واحدة -كما هو الواقع هنا-  صحيح جائز إن لم يكن للتشهي واتباع الهوى وتتبع الرخص،  جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: " الْمُرَادُ بِالتَّلْفِيقِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ : أَخْذُ صِحَّةِ الْفِعْل مِنْ مَذْهَبَيْنِ مَعًا ، بَعْدَ الْحُكْمِ بِبُطْلاَنِهِ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُفْرَدِهِ .
وَمِثَالُهُ : مُتَوَضِّئٌ لَمَسَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِلاَ حَائِلٍ ، وَخَرَجَ مِنْهُ نَجَاسَةٌ ،كَدَمٍ ، مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ، فَإِنَّ هَذَا الْوُضُوءَ بَاطِلٌ بِاللَّمْسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَبَاطِلٌ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلاَ يُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَلاَ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِاللَّمْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، فَإِذَا صَلَّى بِهَذَا الْوُضُوءِ ، فَإِنَّ صِحَّةَ صَلاَتِهِ مُلَفَّقَةٌ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا " انتهى .
لا شك أن بعض العلماء يمنع هذا ويرى بطلان العمل الملفق ففي الدر المختار وحاشية ابن عابدين :"الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ" انتهى.
والقول بالجواز ذهب إليه آخرون ففي  الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي: "وَبِالْجُمْلَةِ : ففِي التَّلْفِيقِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ مَذْهَبَيْنِ طَرِيقَتَانِ : الْمَنْعُ ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمَصَارِوَةِ , وَالْجَوَازُ ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمَغَارِبَةِ وَرُجِّحَتْ " انتهى .
وقال الرحيباني الحنبلي في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: " وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ وَأَخْتَارُهُ : الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي التَّلْفِيقِ ، لَا بِقَصْدِ تَتَبُّعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَتَبَّعَ الرُّخَصَ فَسَقَ ، بَلْ حَيْثُ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا ، خُصُوصًا مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ لَا يَسْعُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ ".
والله تعالى أعلم